الدين المعاملة ليس بحديث ولكنه من كلام العلماء وإن كان معناه مما اتفق
عليه كافة العلماء وهو ضرورة التحلى بكافة الأخلاق الإسلامية، والعبادات
الإسلامية الكبرى ذات أهداف أخلاقية واضحة.
فالصلاة وهي العبادة اليومية الأولى في حياة المسلم، لها وظيفة مرموقة
في تكوين الوازع الذاتي، وتربية الضمير الديني: (وأقم الصلاة، إن الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر).
والصلاة كذلك مدد أخلاقي للمسلم يستعين به في مواجهة متاعب الحياة: (يا آيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)
والزكاة وهى العبادة التي قرنها القرآن بالصلاة ـ ليست مجرد ضريبة
مالية، تؤخذ من الأغنياء، لترد على الفقراء. إنها وسيلة تطهير وتزكية في
عالم الأخلاق، كما أنها وسيلة تحصيل وتنمية في عالم الأموال:
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
والصيام في الإسلام، إنما يقصد به تدريب النفس على الكف عن شهواتها،
والثورة على مألوفاتها. وبعبارة أخرى: إنه يهيئ النفس للتقوى وهى جماع
الأخلاق الإسلامية: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
والحج تدريب للمسلم على التطهر والتجرد والترفع عن زخارف الحياة
وترفها، وخضامها وصراعها. ولذا يفرض في الحج الإحرام ليدخل المسلم حياة
قوامها البساطة والتواضع والسلام والجدية والزهد في مظاهر الحياة الدنيا:
(الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في
الحج).
وحين تفقد هذه العبادات الإسلامية هذه المعاني ولا تحقق هذه الأهداف
تفقد بذلك معناها وجوهر مهمتها، وتصبح جثة بلا روح. ولا غرو أن جاءت
الأحاديث النبوية الشريفة تؤكد ذلك بأسلوب بليغ واضح.
فتقول عن الصلاة: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء، فلا صلاة له"، "كم من قائم (أي الليل بالتهجد) ليس له من قيامه إلا السهر".
وعن الصيام: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه"، "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
الأخلاق والاقتصاد:
وللأخلاق الإسلامية مجالها وعملها في شئون المال والاقتصاد، سواء في ميدان الإنتاج أم التداول أم التوزيع أم الاستهلاك.
فليس للاقتصاد أن ينطلق ـ كما يشاء ـ بلا حدود ولا قيود، دون ارتباط
بقيم، ولا تقيد بمثل عليا، كما هي دعوة بعض الاقتصاديين للفصل بين
الاقتصاد والأخلاق.
ليس للمسلم أن ينتج ما يشاء ولو كان ضارا بالناس ماديا أو معنويا، وإن
كان يستطيع أن يحصل هو من وراء هذا الإنتاج أعظم الأرباح، وأكبر المنافع.
إن زراعة التبغ "الدخان" أو "الحشيش" ونحوه من المواد المخدرة أو
الضارة قد يكون فيها مكسب مادي كبير. ولكن الإسلام ينهاه أن يكون كسبه
ونفعه من وراء خسارة غيره وضرره.
وإن تصنيع الأعناب ليصبح عصيرها خمرا يجلب أرباحا وفيرة ويحقق منافع
اقتصادية للمنتجين من أصحاب الكروم، ولكن الإسلام أهدر هذه المنافع في
مقابل المضار الضخمة التي تترتب على الخمر في العقول والأبدان والأخلاق،
وتتمثل فسادا في الأفراد والأسر والجماعات. يقول القرآن: (يسألونك عن
الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).
وليس للمسلم ـ في ميدان التبادل ـ أن يتخذ بيع الخمر أو الخنزير أو
الميتة أو الأصنام، تجارة. أو يبيع شيئا لمن يعلم أنه يستعمله في شر أو
فساد أو إضرار بالآخرين. كالذي يبيع عصير العنب ـ أو العنب نفسه ـ ممن
يعلم أنه يتخذه خمرا، أو يبيع السلاح ممن يعلم أنه يقتل به بريئا، أو
يستخدمه في ظلم وعدوان. وفي الحديث: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه"،
وفيه: "من حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه من يهودي ـ أي له ـ أو
نصراني، أو ممن يتخذه خمرا ـ أي ولو كان مسلما ـ فقد تقحم النار على
بصيرة".
وليس للمسلم أن يحتكر الطعام ونحوه مما يحتاج إليه الناس رغبة في أن
يبيعه بأضعاف ثمنه. وفي الحديث الصحيح: "لا يحتكر إلا خاطئ" أي آثم. كما
قال تعالى: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين).
وليس للتاجر المسلم أن يخفي مساوئ سلعته وعيوبها، ويبرز محاسنها مضخمة
مكبرة، على طريقة الدعاية الإعلامية المعاصرة، ليبذل المشترون المخدوعون
فيها من الثمن أكثر مما تستحق. فهذا غش يبرأ منه الإسلام، ورسول الإسلام:
"من غش فليس منا".
وفى مجال التوزيع والتملك، لا يجوز للمسلم أن يتملك ثروة من طريق خبيث، ولا يحل له أن يأخذ ما ليس له بحق لا بالعدوان ولا بالحيلة.
كما لا يحل للمسلم الملك بطريق خبيث، لا يحل له تنمية ملكه بطريق خبيث كذلك.
لهذا حرم الله الربا والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل، والظلم بكل صوره، والضرر والضرار بكل ألوانه.
وفي مجال الاستهلاك، لم يدع الإسلام للإنسان حبله على غاربه، ينفق كيف
يشاء، ولو آذى نفسه أو أسرته أو أمته. بل قيده بالاعتدال والتوسط فقال:
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)،
(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين)، وحمل على الترف
والمترفين، وحرم كل ما هو من مظاهر الترف مثل أواني الذهب والفضة، فحرمها
على الرجال والنساء جميعا، كما حرم على الرجال لبس الذهب والحرير.
وبهذا تميز الاقتصاد الإسلامي بهذه الخصيصة العظيمة من خصائصه، أنه "اقتصاد أخلاقي"، وشهد له بذلك الباحثون الأجانب.
يقول الكاتب الفرنسي "جاك أوستروي" في كتابه عن "الإسلام والتنمية الاقتصادية".
"الإسلام هو نظام الحياة التطبيقية والأخلاق المثالية الرفيعة معا،
وهاتان الوجهتان مترابطتان لا تنفصلان أبدا. ومن هنا يمكن القول: إن
المسلمين لا يقبلون اقتصادا (علمانيا). والاقتصاد الذي يستمد قوته من وحي
القرآن يصبح بالضرورة، اقتصادا أخلاقيا.
وهذه الأخلاق تقدر أن تعطي معنى جديدا لمفهوم "القيمة" وتملأ الفراغ الفكري الذي يوشك أن يظهر من نتيجة (آلية التصنيع).
"لقد استنكر (بركس) النتائج المؤذية لنمو حضارة (الجنس) في الغرب، ويقلق الاقتصاد اليوم من سطوة "قيم الرغبات" على القيم الحقيقية.
"والآن بدأ الغرب يعي النتائج المؤذية من جراء مفاوضات عالمية لعالم
غير مستقر... فلقد وجد الرجل نفسه مفصولا عن عمله، فالآلة أصبحت السيد،
وحياة التطرف في وسائل الراحة كالسيارات وغيرها. والاهتمام بالتوافه، ولم
يهتم الغرب أبدا عداء (الآلة) للإنسان، وهى تشكل أفقا لقسم هام من
الإنسانية".
"ولم يغب عن الإسلام الواعي هذا الدرس في متناقضات الغرب، ولكي يقف في
مواجهة الغرب ـ محققا في الوقت نفسه وجهته الاقتصادية ـ عمد الإسلام
لإدخال قيمه الأخلاقية في الاقتصاد…
وهكذا يخضع العناصر المادية في الاقتصاد لمتطلبات العدل.
"وهذا اللقاء بين الأخلاق والاقتصاد الذي يلج عليه (ج. يرث) لم يوجد صدفة في الإسلام الذي لا يعرف الانقسام بين الماديات والروحيات.
"وإذا كان اقتران البروتستانية مع الوثبة الصناعية مزورا، وإذا كانت
الصلة بينهما موضع نقاش، فهذا غير كائن في الإسلام، لأن غالبية تشريعه
الإلهي تمنع كل تنمية اقتصادية لا تقوم عليها.
"وعلى النقل التقليدي السريع لتجربة الغرب (أعط ما لقيصر لقيصر وما
لله لله) يجب ألا يخفي استحالة هذا التمييز في الإسلام، وفصل الدين عن
الدولة الذي أدخل الفاعلية المادية في الغرب، لا معنى له في الإسلام، حيث
لا تولد الفعالية في المجال الفكري وخارجه، بل باستلهام من قوة الإسلام
ومن الوحي المنزل".
وإذا استقرأنا الواقع التطبيقي، وجدنا أثر هذا الاقتران بين الاقتصاد
والأخلاق، واضحا وعميقا في تاريخ المسلمين، وخاصة يوم كان الإسلام هو
المؤثر الأول في حياتهم، والموجه الأول لنشاطهم وسلوكهم.
السياسة والأخلاق:
وكما ربط الإسلام الاقتصاد بالأخلاق، ربط بها السياسة أيضا، فليست
السياسة الإسلامية سياسة "ميكافيلية" ترى أن الغاية تبرر الوسيلة أيا كانت
صفتها، بل هي سياسة مبادئ وقيم، تلتزم بها، ولا تتخلى عنها، ولو في أحلك
الظروف، وأحرج الساعات. سواء في علاقة الدولة المسلمة بمواطنيها داخليا،
أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات.
إن الإسلام يرفض كل الرفض الوسيلة القذرة، ولو كانت للوصول إلى غاية
شريفة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، فالخبيث من الوسائل، كالخبيث من
الغايات مرفوض، ولا بد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة.
في علاقة الدولة بمواطنيها يقول الله تعالى مخاطبا أولي الأمر في
المسلمين: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا
بصيرا).
فأداء الأمانات ـ بمختلف أنواعها المادية والأدبية ـ إلى مستحقيها،
والحكم بين الناس ـ كل الناس ـ بالعدل، هو واجب الدولة المسلمة مع
رعاياها.
ولا يجوز للحاكم المسلم أن يحابى أحد أقاربه أو حاشيته، فيوليه ما لا
يستحق، ويحرم من يستحق، والرسول صلى الله عليه وسلم يجعل هذا إيذانا
باقتراب ساعة هلاك الأمة، فقد سأل رجل يوما عن الساعة فقال: "إذا ضيعت
الأمانة فانتظر الساعة؟ قيل: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير
أهله فانتظر الساعة".
كما لا يجوز إسقاط عقوبة مقررة عمن يستحقها لنسبه أو جاهه أو قربه من
ذوي السلطان، وفي هذا جاء الحديث: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا
سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم
الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
إن السياسة الإسلامية في الداخل يجب أن تقوم على أساس العدل والإنصاف
والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات والعقوبات، وعلى الصدق مع الشعب
ومصارحته بالحقيقة دون تضليل أو تدجيل وكذب عليه، فإن أحد الثلاثة الذين
لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "ملك كذاب" كما
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي علاقة الدولة بغيرها من الدول يجب عليها الوفاء بعهودها، وجميع التزاماتها، واحترام كلمتها.
يقول تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد
توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون، ولا تكونوا
كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون
أمة هي أربى من أمة، إنما يبلوكم الله به، وليبينن لكم يوم القيامة ما
كنتم فيه تختلفون، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي
من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون)
ففي هاتين الآيتين يأمر الله تعالى باحترام العهود والمواثيق ويضيفها
إلى الله تعالى "عهد الله" ويحذر من نكث العهود بعد إبرامها، كفعل تلك
المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها من بعد إحكامه، وقوة إبرامه، وينادي بأن
تكون المعاهدات والاتفاق بين الأمم مبنية على الإخلاص وحسن النوايا، دون
الدخل والغش الذي يقصد به أن تكون أمة هي أربى وأزيد نفعا من أمة، فتستفيد
من المعاهدة على حساب أمة أخرى. وهو ما نشاهده في معاهدات هذا الزمان.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالا يحتذى في احترام الاتفاقات،
ورعاية العهود، وإن رأى أصحابه فيها أحيانا ما يعتقدونه إجحافا بالمسلمين،
كما في صلح الحديبية.
ولما جاء رجل يريد أن ينضم إلى جيش المسلمين في إحدى الغزوات ضد قريش،
وكان الرجل قد عاهدهم ألا يحارب في صف عدوهم، لم يستجب له النبي صلى الله
عليه وسلم، وأمره بالوفاء قائلا: "نفى لهم، ونستعين الله عليهم".
فإذا كان بعض الناس يعتقد أن السياسة لا أخلاق لها، فهذا أبعد ما يكون
عن سياسة الإسلام، التي تقوم ـ أول ما تقوم ـ على العدل والوفاء والصدق
والشرف ومكارم الأخلاق.
الحرب والأخلاق:
وإذا كانت تلك هي سياسة الإسلام في السلم، فإن سياسته في الحرب أيضا لا تنفصل عن الأخلاق.
فالحرب لا تعني إلغاء الشرف في الخصومة، والعدل في المعاملة، والإنسانية في القتال وما بعد القتال.
إن الحرب ضرورة تفرضها طبيعة الاجتماع البشري، وطبيعة التدافع الواقع
بين البشر الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، (لولا
دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)
ولكن ضرورة الحرب لا تعني الخضوع لغرائز الغضب والحمية الجاهلية وإشباع نوازع الحقد والقسوة والأنانية.
إذا كان لا بد من الحرب، فلتكن حربا تضبطها الأخلاق، ولا تسيرها الشهوات، لتكن ضد الطغاة والمعتدين لا ضد البرآء والمسالمين.
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين)، (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام، أن تعتدوا،
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله
إن الله شديد العقاب).
إذا كان لا بد من الحرب، فلتكن في سبيل الله، وهو السبيل الذي تعلو به
كلمة الحق والخير ـ لا في سبيل الطاغوت ـ الذي تعلو به كلمة الشر والباطل،
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت،
فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا).
لتكن من أجل استنقاذ المستضعفين، لا من أجل حماية الأقوياء المتسلطين:
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان
الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك
وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا).
ولتتقيد الحرب بأخلاق الرحمة والسماحة، ولو كانت مع أشد الأعداء شنآنا للمسلمين، وعتوا عليهم.
وإذا كان كثير من قادة الحروب وفلاسفة القوة، لا يبالون أثناء الحرب
بشيء إلا التنكيل بالعدو، وتدميره، وإن أصاب هذا التنكيل من لا ناقة له في
الحرب ولا جمل، فإن الإسلام يوصى ألا يقتل إلا من يقاتل، ويحذر من الغدر
والتمثيل بالجثث وقطع الأشجار، وهدم المباني، وقتل النساء والأطفال
والشيوخ والرهبان المنقطعين للعبادة والمزارعين المنقطعين لحراثة الأرض.
وفي هذا جاءت آيات القرآن الكريم، ووصايا الرسول الكريم، وخلفائه
الراشدين، ففي القرآن: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا،
إن الله لا يحب المعتدين)
وفي السنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه إذا توجهوا
للقتال بقوله: "اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله،
اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا…".
وكذلك كان الخلفاء الراشدون المهديون من بعده يوصون قوادهم: ألا
يقتلوا شيخا، ولا صبيا، ولا امرأة، وألا يقطعوا شجرا، ولا يهدموا بناء".
بل نهوهم أن يتعرضوا للرهبان في صوامعهم، وأن يدعوهم وما فرغوا أنفسهم له من العبادة.
يذكر المؤرخون المسلمون أن الخليفة الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه
ـ في المعارك الكبرى التي دارت بين المسلمين والإمبراطوريتين العتيدتين
فارس والروم ـ أرسل إليه رأس أحد قادة الأعداء من قلب المعركة إلى المدينة
عاصمة الدولة الإسلامية، وكان القائد يظن أنه يسر بذلك الخليفة، ولكن
الخليفة غضب لهذه الفعلة لما فيها من المثلة، والمساس بكرامة الإنسان
فقالوا له: إنهم يفعلون ذلك برجالنا، فقال الخليفة في استنكار: آستنان
بفارس والروم؟ لا يحمل إلى رأس بعد اليوم!
وبعد أن تضح الحرب أوزارها، يجب ألا ينسى الجانب الإنساني والأخلاقي في معاملة الأسرى وضحايا الحرب.
يقول الله تعالى في وصف الأبرار من عباده: (ويطعمون الطعام على حبه
مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا
شكورا).
والأخلاق في الإسلام إنسانية عالمية، لا تبيح لجنس ما تحرمه على آخر،
العرب والعجم فيها سواء، بل المسلمون وغيرهم أمام أخلاقها سواسية، الربا
حرام مع المسلم والكافر، والسرقة حرام لمال المسلم والكافر، والزنا حرام
بالمسلمة وغير المسلمة، والعدل واجب مع المسلم وغير المسلم، والعدوان حرام
على المسلم وغير المسلم. وفي هذا يقول القرآن:
(لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)
وبهذا تنزهت الأخلاق الإسلامية عن النزعة العنصرية القومية التي اتسمت
بها الأخلاق اليهودية، والأخلاق القبلية والبدائية على وجه العموم.
ولقد جاء الإسلام في مجال الأخلاق بما يلائم الفطرة والطبيعة البشرية
ويكملها، لا بما يصادرها ويصدمها فما كان الله ليخلق الإنسان على طبيعة ثم
يكلفه أن يقهرها ويقتلها، أو يبطل أثرها ويجمدها.
ومن هنا اعترف الإسلام بالكائن الإنساني، كما خلقه الله، بدوافعه
النفسية، وميوله الفطرية، وكل ما صنعه أنه هذبها وسما بها، ووضع لها
الحدود التي تصان بها مصلحة المجتمع، ومصلحة الفرد ذاته. ولهذا أباحت
الشريعة التمتع بالطيبات والزينة، وشرعت الملكية الخاصة، ولم تنظر للغرائز
على أنها رجس من الشيطان.
رغب الإسلام في النظافة والزينة، وجعلهما من مقدمات الصلاة وشروطها (خذوا زينتكم عند كل مسجد).
أنكر القرآن بشدة على الذين يحرمون (زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).
فإذا كانت المسيحية ترى أن الغنى لا يدخل ملكوت السموات، فالإسلام يقول: "نعم المال الصالح للرجل الصالح".
وإذا كانت المسيحية قد أنشأت نظام الرهبانية العاتي بما فيه من قسوة
على الجسد، ومصادرة للنوازع الفطرية، فالإسلام ينهى عن التبتل، ويحض على
الزواج، ويرى أن الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، بل يعتبر السعي
على العيال، والقيام على شؤونهم ضربا من الجهاد في سبيل الله.
ولكن الإسلام في كل ما أباحه ـ مراعيا الطبيعة البشرية ـ قد وضح له
الضوابط والحدود التي تقف عند حد الاعتدال، ولا يستحيل بالإفراط والغلو
إلى انطلاق حيواني ذميم.
ومن خصائص الأخلاق الإسلامية: أنها أخلاق واقعية، لا تصدر أوامرها
ونواهيها لأناس يعيشون في أبراج عاجية، أو يحلقون في أجواء المثالية
المجنحة، إنما تخاطب بشرا يمشون على الأرض، لهم دوافع وشهوات، ولهم مطامع
وأمال، ولهم مصالح وحاجات، ولهم من دوافع الجسد ما ينزع بهم إلى الأرض،
كما لهم من أشواق الروح ما يرتفع بهم إلى السماء.
لم يكلف القرآن الإنسان أن يحب أعداءه، وأن يبارك لاعنيه ـ كما أمر
الإنجيل ـ فهذا شيء لا تطيقه النفس البشرية ـ إلا شذوذا ـ وإنما أمر
القرآن المؤمنين أن يعدلوا مع أعدائهم، ولا تحملهم عداوتهم وبغضهم على
الاعتداء عليهم (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب
للتقوى)، وهذا هو المقدور للبشر، وأنه مع ذلك لقمة لا يرتقي إليها إلا
المؤمنون.
ولم يقل القرآن ما قال الإنجيل: "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك
الأيسر، ومن سرق قميصك، فأعطه إزارك" فهذا لا يستطيعه ـ كما يشهد الواقع ـ
كل الناس، ولا في كل الأحوال. بل قال القرآن: (وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن
عفا وأصلح، فأجره على الله).
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)
فأقر مبدأ العدل، ثم فتح الباب للمتطلعين إلى السمو والكمال، ليعفوا
ويصفحوا. الشيء الذي يحرمه الإسلام هو العدوان: (ولا تعتدوا إن الله لا
يحب المعتدين) وبذلك وفق الإسلام بين عدل التوراة وسماحة الإنجيل، وهذه هي
الواقعية المالية المتوازنة.
لم يقل القرآن ما قال الإنجيل: "إذا أعثرتك عينك فاقلعها، وألقها عنك،
فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك من أن يلقى بدنك كله من جهنم"، بل أمر
المؤمنين والمؤمنات أن يغضوا من أبصارهم، كما أمرهم بالتوبة مما قد يبدر
منهم، فقال: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)، وعفا
الرسول عن نظرة الفجاءة، وقال: "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى،
وليست لك الآخرة".
ومن واقعية الأخلاق الإسلامية أنها لم تفترض في المؤمنين المتقين أن
يكونوا ملائكة أولى أجنحة، لا تسول لهم أنفسهم سوءا يوما، ولا يتورطون في
أوحال الرذيلة أبدا، كلا إن الإنسان خلق على طبيعة مزدوجة، جمعت بين طين
وحمإ مسنون، وبين نفخة من روح الله. فليس بمستنكر أن يذنب، ثم يتوب. إنما
المنكر أن يتمادى في الذنوب ويستمرئ الرذيلة والعصيان. لقد أذنب آدم ـ أبو
البشر ـ وتاب فتاب الله عليه، فلا غرابة أن يكون بنوه مثله، لهذا جعل
القرآن من أصناف المتقين: (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا
الله، فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله؟، ولم يصروا على ما
فعلوا وهم يعلمون).
كما فرق القرآن بين كبائر الإثم وفواحشه، وبين صغائر السيئات ولمم
الذنوب التي قلما يسلم منها أحد، فهي في دائرة المسامحة والغفران ما
اجتنبت الموبقات: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم،
وندخلكم مدخلا كريما)
ومن واقعية الأخلاق الإسلامية أنها قدرت للضرورات قدرها، وراعت
الأعذار والظروف المخففة، ولم تتزمت تزمت المثاليين المتطرفين الذين
يقبلون أي استثناء. ولهذا بعد أن ذكر القرآن محرمات الأطعمة، عقب عليها
بقوله: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفورا رحيم).
ومن خصائص الأخلاق في الإسلام: أنها أخلاق إيجابية، فهي لا ترضى من
المتحلي بها مسايرة الركب، أو المشي مع التيار، أو العجز والاستسلام
للأحداث توجه قياده كالريشة في مهب الريح. إنما تحث على القوة والكفاح،
ومواصلة السعي في ثقة وأمل، وتقاوم العجز واليأس، والتماوت والكسل، وكل
أسباب الضعف. وفي القرآن الكريم: (خذ الكتاب بقوة).
وفى الحديث: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو
أنى فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل
الشيطان".
ويوصي الرسول بالعمل لعمارة الحياة حتى آخر لحظة في عمر الدنيا، ولو
لم ينتفع بثمرة العمل أحد، ولكن احترام لقيمة العمل في ذاته، "إن قامت
الساعة وفى يد أحدكم فسيلة يريد أن يغرسها، فإن استطاع ألا تقوم حتى
يغرسها فليغرسها".
يرفض الإسلام الإتكالية المنهزمة التي نراها في قول أصحاب موسى له:
(فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون)، ولكن يريد الإيجابية الفعالة
التي تتمثل في قول أصحاب محمد: "اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما
مقاتلون".
لم يكتف الإسلام من المسلم أن يكون مستقيما في نفسه، حتى يعمل على
استقامة غيره، ولم يقبل المرء في عداد الفضلاء الصالحين إذا صلح هو، ولم
يأبه لفساد المجتمع من حوله، بل فرض على كل مسلم ـ بقدر كفايته واستطاعته
ـ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق،
والتواصي بالصبر والمرحمة، والنصيحة في الدين،
والاهتمام بأمر المسلمين: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله)، (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، "الدين
النصيحة"، "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
بهذا رفض الإسلام السلبية أمام الفساد الاجتماعي والسياسي، والتحلل
الخلقي والديني، وطلب إلى المسلم أن يغير المنكر بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
والتغيير بالقلب ليس سلبيا كما يظن، ولكنه تعبئة نفسية وشعورية ضد الفساد، لا بد أن تتجسد يوما في عمل ملموس.
ومن خصائص الأخلاق الإسلامية أنها أخلاق شاملة مستوعبة، فإذا ظن بعض
الناس أن الأخلاق في الأديان تنحصر في أداء الشعائر التعبدية ونحو ذلك،
فهذا إن صح في أخلاق دين ما، لا يصح أن يوصف به قانون الأخلاق في الإسلام.
فإن هذا القانون لم يدع للنشاط الإنساني من ناحيتيه: الفردية والاجتماعية
مجالا حيويا، أو فكريا، أو أدبيا، أو روحيا، إلا رسم له منهجا للسلوك وفق
قاعدة معينة، بل تخطى علاقة الإنسان بنفسه علاقته ببني جنسه، فشمل علاقته
بالكون في جملته وتفصيله، ووضع لذلك كله ما شاء الله من الآداب الراقية،
والتعاليم السامية، وهكذا جمع ما فرقه الناس باسم الدين، وباسم الفلسفة،
ثم كان له عليهما المزيد.
لقد شاء الله للإسلام أن يكون الرسالة العامة الخالدة، فهو هداية الله
للناس كافة، من كل الأمم، وكل الطبقات، وكل الأفراد، وكل الأجيال.
والناس تختلف مواهبهم وطاقاتهم الروحية والعقلية والوجدانية، وتتفاوت
مطامحهم وآمالهم، ودرجات اهتمامهم، ولهذا جمعت الفكرة الأخلاقية في
الإسلام، ما فرقته الطوائف الدينية، والمذاهب الفلسفية ـ مثالية وواقعية ـ
في نظرتها إلى الأخلاق وتفسيرها لمصدر الإلزام الخلقي، فلم يكن كل ما
قالته هذه المذاهب والنظريات باطلا، كما لم يكن كله حقا، إنما كان عيب كل
نظرية أنها نظرت من زاوية، وأغفلت أخرى، واهتمت بجانب على حساب جانب آخر،
وهو أمر لازم لتفكير البشر، الذي يستحيل عليه أن ينظر في قضية ما نظرا
يستوعب كل الأزمنة والأمكنة، وكل الأجناس والأشخاص، وكل الأحوال والجوانب،
فهذا يحتاج إلى إحاطة إله عليم حكيم.
فلا غرو إذا كانت نظرة الإسلام، جامعة محيطة مستوعبة، لأنها ليست نظرية بشر، بل وحي من أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا.
لهذا أودع الله في هذا الدين ما يشبع كل نهمة معتدلة، وما يقنع كل ذي
وجهة، ويلائم كل تطور، فمن كان مثاليا ينزع إلى الخير لذات الخير، وجد في
أخلاقية الإسلام ما يرضى مثاليته، ومن كان يؤمن بمقياس السعادة، وجد في
الفكرة الإسلامية ما يحقق سعادته وسعادة المجموع معه، ومن كان يؤمن بمقياس
المنفعة ـ فردية أو اجتماعية ـ وجد في الإسلام ما يرضى نفعيته، ومن كان
يؤمن بالترقي إلى الكمال، وجد فيه ما يحقق طلبته، ومن كان همه التكيف مع
المجتمع، وجد فيه ما يلائم اجتماعيته، حتى الذي يؤمن بأهمية اللذة الحسية
يستطيع أن يجدها فيما أعد الله للمؤمنين في الجنة من نعيم مادي، ومتاع حسي
(فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين).
وبهذا تسمع كل أذن الأنشودة التي تحبها، وتجد كل نفس الأمنية التي تهفو إليها.
هناك أصناف ثلاثة لا مكان لها في الأخلاقية الإسلامية:
الأول: من لا يؤمن إلا باللذة الحسية الحاضرة، أو بالمنفعة الدنيوية
الشخصية العاجلة، ولا يقيم وزنا لما هو مدخر له من لذائذ أكبر، ومنافع
أعظم في حياة هي خير وأبقى، شعاره قول الشاعر:
ما مضى فات، والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
والثاني: الفرد الذي يرفض جميع القيم، حبا لذاته، واتباعا لهواه، أو
يزعم أن القيم الأخلاقية من وضع لاستغلال طبقة أخرى، وما شابه ذلك من لغو
القول.
والثالث: المغرور المتعصب الذي يصر على ألا ينظر إلى الحياة والأحياء،
إلا من زاوية واحدة، وأفق ضيق، فهو سجين مذهب معين، أو سجين نظرة خاصة، لا
يستطيع أن يخلص منها إلى الأفق الفسيح الذي جاءته به رسالة الإسل