في مطلع شبابنا كنت وزملائي في الجامعة نسعى وراء الشيخ 'رفعت' أينما ذهب خلال عقد الثلاثينيات فإذا عرفنا أنه سيحيي ليلة ذهبنا إليه، وبصفة خاصة إلي مسجد الحسين حيث كان قارئ السورة في يوم الجمعة من كل أسبوع. وكنت أجلس أقرب ما يمكن من مكان الشيخ رفعت حتى لا تفوتني أدني شاردة أو واردة يأتي بها صاحب الصوت الذهبي الذي يطوف بنا عبر العوالم القدسية من خلال آيات القرآن الكريم كان صوته بالفعل يغوص في أعماق الوجدان والروح والعقل والإدراك الذي يأتي بفيض العطاء الذي يهب السامع نفحة هائلة من حلاوة الإيمان في ذلك الوقت كانت الاسطوانات قد اخترعت وكأنما جاءت في وقتها المناسب حتى لا يفوت الأجيال اللاحقة فرصة الاستماع إلي هذا الصوت الرائع.. النادر الوجود. وكان بعض الناس لا يستطيعون سماع صوت الشيخ رفعت إلا إذا كانوا علي وضوء حتى يستقبلوا إشراقات الصوت بما يليق به من طهارة وخشوع.
وإن كان قد من علي الشيخ رفعت بصوت فريد الجمال، فقد من عليه أيضا بنعمة المقدرة علي تجسيد المعاني إلي درجة يكاد معها الإنسان ينظر إلي أهل الجنة في الجنة ينعمون وإلي أهل النار في النار وهم يعذبون!
وفي ذات سهرة قرآنية ذهبنا مبكرين حيث كان الشيخ محمد رفعت هو قارئ السهرة وجلست كعادتي قريبا من كرسي القراءة لأكون قريبا من هذا القارئ الذي لا يتكرر وغص المكان بالآذان الواعية وصوت الشيخ رفعت يملأ المكان بنور القرآن الكريم. وكان الشيخ رفعت يقرأ الآية رقم (24) من سورة إبراهيم فقرأ قوله تعالي: (وآتاكم من كل ما سألتموه) أي أن سبحانه آتاكم من كل شيء سألتموه إياه فإذا به يقرأ (وآتاكم من كل....) وقف عند كلمة (كل) فإذا بالحضور ينظرون بعيونهم نحو الشيخ ليتبينوا إن كان قد ألم به شيء جعله يقف هذا الوقف
ولكن الشيخ رفعت عاد فقرأ هكذا: (وآتاكم من كل.... 'بتنوين اللام' ما سألتموه).
أي أنآتاكم من كل شيء إذا ما سألتموه ذلك ويدل ذلك علي إلمام 'الشيخ رفعت' بكل زاوية من زوايا القرآن. ولقد كان الشيخ رفعت 'رحمه ' يقرأ من مناطق صوتية جديدة علي الأذن، وكان بلا منازع سيد المقرئين جميعا، أو مقرئ المقرئين. ويقال: إن أحد الضباط 'الكنديين' أثناء الحرب العالمية ذهب إلي دار الإذاعة المصرية وكان مديرها إنجليزيا آنذاك وطلب الضابط الكندي من مدير الإذاعة الإنجليزي أن يعرفه بالشيخ محمد رفعت، فتعجب من ذلك الطلب وسأله:
ولماذا تريد التعرف بالشيخ رفعت؟
فقال الضابط الكندي:
لقد سمعت صوته وأنا أقلب محطات المذياع، فحدث تغير في كل كياني حتى أن صوته قد ملك عليٌ مشاعري، فلم أتمالك نفسي من البكاء بسبب تأثير ذلك الصوت السماوي علي أحاسيسي.
ولم يكن 'الضابط' يعرف أن الذي يقرأه 'الشيخ رفعت' هو القرآن الكريم. وبينما هما يتكلمان دخل الشيخ رفعت إلي 'الاستديو' وعرف الضابط بعد مقابلته أن الذي أثر عليه بجوار صوت الشيخ هو القرآن الكريم الذي نزل علي رسول صلي عليه وسلم بواسطة الوحي، وأن الدين الذي بشر به هو الدين الإسلامي..
وطلب 'الضابط' الكندي من رئيس الإذاعة أن يترجم له بعض آيات الذكر الحكيم فترجم له ما يدل علي وحدانية وسماحة الإسلام..
وظل الشيخ رفعت يسوق الآيات والمدير يترجم، ومازال الكندي يستمع باهتمام شديد وأخذ 'الضابط الكندي' يتردد علي الشيخ 'رفعت' يوميا ليسأل والشيخ يجيب عليه.. حتى وقر الإيمان في قلبه فأشهر إسلامه ثم عاد إلي بلاده ليكتب في صحفها عن ذلك الدين العظيم!
هذا كله يلفتنا إلي أن 'الشيخ رفعت' كان له سامعون يأتون إلي مصر من أقصي الأقاصي لسماع صوته حتى إن مفتي سوريا قال عنه:
إن الشيخ رفعت له صوت يسيطر علي المشاعر ويتسلل إلي السويداء حيث يسكن القلب والعقل ويغلفهما بغلاف روحي له جرس مميز..
ثم أضاف المفتي قائلا:
لقد جدد 'الشيخ رفعت' شباب الإسلام لصوته الفريد في ترتيل آيات القرآن الكريم..
لقد بدأ الشيخ رفعت طريقه عام 1888م حينما استمع إليه الشيخ 'علي محمود' فقد غلف صوته الخشوع والرهبة. ولما سمعه انهمرت الدموع من عينيه وتنبأ له بمستقبل باهر في عالم المشاهير وفعلا لم يمت 'الشيخ علي محمود' إلا وقد أصبح لهذا الشاب الفريد شأن يليق به في عالم قراء القرآن، وقد ذاع صيت الشيخ رفعت إلي الدرجة التي جعلته يتفوق علي كل من جاء قبله، وعلي كل من عاصروه، بما في ذلك الشيخ علي محمود نفسه وكذلك الشيخ 'أحمد ندا'. ولم نسمع طوال حياتنا عن قراء القرآن الكريم إلا أنهم رسل سلام يحملون عبر أصواتهم آيات القرآن الكريم ولكنهم كانوا يتفاضلون بحسب حلاوة الصوت والتمكن من الأحكام والتجويد!
رحم الله شيخينا الجليلين الشعراوى و محمد رفعت